الاقتصاد الأميركي ما بين أزمتي البنوك والديون والركود المحتمل

يعتقد جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي «البنك المركزي الأميركي» أن الاقتصاد الأميركي يمكنه تجنب الركود المحتمل، على الرغم من كونه الاحتمال الأكبر، بفضل البنوك والسياسة، وحتى الطقس.

يرى باول أن سوق العمل الأميركي لا يزال يتحدى الظروف، لكون الوظائف التي تطلبها الشركات لا تزال تتمتع بالوفرة. وفيما يرى العديد من المحللين الطريق ممهداً لدخول الاقتصاد في ركود قوي، خصوصاً مع رفع أسعار الفائدة خمسمائة نقطة مئوية، إلا أن رئيس البنك الفيدرالي يرى أنّ من الممكن أن يكون رفع سعر الفائدة هذه المرة مختلفاً، على الرغم من إصراره على الإبقاء عليه مرتفعاً لفترات مطولة. ويضيف المحللون إلى معضلة رفع الفائدة لمكافحة التضخم، وفي الوقت نفسه الرغبة في تجنب الركود، ثلاث مشكلات وثيقة الصلة بالأزمة، هي أزمة الائتمان التي تلوح في الأفق، في أعقاب انهيار ثلاثة بنوك، واقتراب عدد آخر من الانهيار، ومأزق سقف الديون، وكذلك أزمة الطقس التي من شأنها أن تعطل إمدادات السلع الأساسية، ما سيؤدي إلى دفع الأسعار إلى الأعلى. وإذا ما نجح هذا الثالوث في الزج بالاقتصاد الأميركي نحو الركود، فلن يستطيع صناع السياسة النقدية، وعلى رأسهم باول، فعل شيء حيال ذلك، لأن الحل الأمثل لمكافحة الركود هو خفض سعر الفائدة، وهو الأمر الصعب حالياً، في ظل توقعات استمرار التضخم لبعض الوقت. يمكننا القول بعبارة أخرى، إن الركود ليس من الآثار الجانبية العرضية لمحاولات كبح جماح التضخم، بل هو في وجهة نظر العديد من المختصين النتيجة المباشرة لرفع سعر الفائدة. وفي تقرير لمحطة سي إن إن، أكد محللون أنه في التاريخ الحديث، لم تكن هناك حالة واحدة لم يؤد فيها رفع الفائدة على هذا النحو إلى ركود! وأدى انهيار البنوك الثلاثة في أقل من شهرين إلى تضخيم تأثيرات ارتفاع أسعار الفائدة، وخصوصاً ما يتعلق بتشديد القيود على الائتمان. وفي العام الماضي، أظهر استطلاع رأي لمسؤولي الإقراض في البنوك الأميركية أن معايير الإقراض أصبحت أكثر صرامة. وبعد انهيار بنك سيليكون فالي، ثم بنك سيغنتشر، كان طبيعياً أن تزداد التوقعات بتسارع هذا التيار. فهل سيلعب تشديد الائتمان دوره المعتاد هذه المرة أيضاً لدفع الاقتصاد الأميركي للدخول في ركود. في الوقت نفسه، تشير تحركات أسعار أسهم البنوك الإقليمية خلال الشهرين الماضيين إلى أن عدوى انهيار البنوك ما زالت مستمرة، وتعمل مثل كرة الثلج التي لا تكاد تتحرك إلا ويزداد حجمها. وبعدما أكد عشرات المحللين أن بنك سيليكون فالي كان بنكاً متطرفاً في مكونات ميزانيته، وحالة خاصة بعيدة عن البنوك الآخرى، انتقلت العدوى إلى بنك سيغنتشر، ثم بنك فيرست ريببليك، واقتربت بنوك أخرى من الإخفاق في غضون أسابيع قليلة، على غرار ما حدث في عام 2008. وعلى الرغم من وصف باول استحواذ بنك «جيه بي مورغان» على فيرست ريبابليك بأنه خطوة لرسم مسار الخروج من الأزمة، إلا أن التقلبات العنيفة التي تشهدها سوق أسهم البنوك الأميركية بين الحين والآخر تؤكد أن هذا الأمر لم يحدث بعد. وفي أميركا، يقولون إن الأسواق لا تكذب.

وفي ما يخص أزمة سقف الدين، أرسلت وزيرة الخزانة جانيت يلين تحذيراً حاداً إلى المشرعين الأميركيين في الأول من مايو/ أيار الجاري، جاء فيها أن قدرة وزارتها على استخدام مناورات محاسبية خاصة للبقاء ضمن حدود الدين الحالية ستنفد في وقت مبكر من بداية شهر يونيو/ حزيران.

وجاء ذلك بعد تخبط وزارة الخزانة الأميركية خلال الأشهر الأخيرة لتجنب التخلف عن السداد، منذ اصطدامها بالحد القانوني الحالي البالغ 31.4 تريليون دولار في 19 يناير/ كانون الثاني.

وقبل كتابة هذا المقال، كان مقرراً أن يعقد الرئيس جو بايدن ورئيس مجلس النواب كيفن مكارثي محادثات بشأن سقف الديون في التاسع من ايار مايو.

واستبقت يلين اجتماع الثلاثاء المرتقب بتصريحات قوية، قالت فيها إن فشل الكونغرس في رفع سقف الدين الاتحادي البالغ 31.4 تريليون دولار سيسبب ضربة هائلة للاقتصاد الأميركي، ويضعف موقف الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية.

ولا يتوقع أحد حدوث انفراجة في المفاوضات الجارية، تسمح برفع حد الدين العام الأميركي، دون موافقة بايدن على إجراء تخفيضات كاسحة في الإنفاق، وهو أمر رفضه الرئيس بايدن وحزبه الديمقراطي شكلاً ومضموناً. وفي أفضل السيناريوهات، سيؤدي التأخر عن رفع سقف الدين إلى تولد فترة من ضغوط السوق المتزايدة، بمعنى حدوث انخفاضات محدودة في سوق الأسهم والسندات، لحين إقرار الرفع. أما في أسوأ الأحوال، فقد يؤدي التخلف عن السداد إلى دفع النظام المالي العالمي إلى الهاوية، والزج بالاقتصاد الأميركي إلى نفق الركود المظلم. والأسبوع الماضي قال باول إن تخلف بلاده عن سداد ديونها للمرة الأولى في التاريخ سيذهب بالبلاد إلى منطقة جديدة تماماً، ولا نعرف ما يمكن أن يحدث للاقتصاد وقتها. وقبل فترة، أكد باول عدم قدرة البنك المركزي الأكبر في العالم على إنقاذ الاقتصاد الأميركي، حال تخلف الحكومة عن سداد ديونها. وقال باول أيضاً إنه مع ارتفاع الأسعار (التضخم) بشكل أسرع مما يريده البنك الفيدرالي، «لن يكون من المناسب خفض أسعار الفائدة، ولن نخفض أسعار الفائدة، وإذا حدث الركود الاقتصادي، فلا يمكن أن نذهب للإنقاذ من خلال التحفيز النقدي». يمتلك الاقتصاد الأميركي، بمؤسساته المختلفة، العديد من الأدوات التي يمكنه من خلالها مقاومة الأزمات، أو تجنب الصغير منها. لكن عند تراكمها، وطول أمدها، وتعدد جوانبها، لا يستطيع أي بلد في العالم أن يوقف تأثيرات أزمات بهذا الحجم على الاقتصاد وعلى المواطنين، ولنا في الأزمة المالية العالمية في 2008 كل العبر. النقطة الوحيدة التي تهوّن علينا ما هو آتٍ، عدم التوسع في استخدام المشتقات المالية في أغلب مسببات الأزمات الحالية، على النحو الذي حدث في عام 2008، وهو ما ندعو الله ألا يتغير قريباً.

Spread the love

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *