استعادة علاقات لبنان بليبيا… ولو بعد حين
مصباح العلي
عقب إنهاء أزمة احتجاز هنيبعل معمر القذافي في لبنان، والتي استمرت نحو عشر سنوات، ساد في بيروت اعتقادٌ بأن صفحة جديدة فُتحت في العلاقات اللبنانية–الليبية، وأن الانفراج بات ممكناً بعد عقود من القطيعة التي بدأت منذ اختفاء الإمام موسى الصدر عام 1978. غير أن المتابعة الدقيقة لمسار هذه العلاقات أظهرت نتائج غير مشجعة، كشفت عن عوائق غير مرئية ما زالت تحول دون عودتها إلى سابق عهدها.
المسألة، وفق متابعين، لا تتصل بغياب الرغبة السياسية بقدر ما ترتبط بعدم توافر موقف لبناني داخلي موحّد. ويذهب البعض إلى القول إن تصلّب رئيس مجلس النواب نبيه بري في هذا الملف يشكّل عائقاً أساسياً، ما يحرم لبنان من فرصة سياسية واقتصادية ثمينة، وربما من فرص متعددة في مرحلة إقليمية شديدة التعقيد.
العلاقات الليبية – اللبنانية: جذور تاريخية
ترتبط ليبيا ولبنان بعلاقات تاريخية تعود إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حين كان البلدان جزءاً من فضاء عربي واحد تحكمه اعتبارات التضامن السياسي والدعم المتبادل في القضايا القومية، وعلى رأسها الصراع العربي–الإسرائيلي. وقد شهدت تلك المرحلة حضوراً ليبياً سياسياً واقتصادياً في لبنان، سواء عبر الاستثمارات أو عبر دعم عدد من القوى والحركات اللبنانية والفلسطينية، بما يعكس طبيعة النظام الليبي آنذاك ونهجه السياسي الخاص.
وخلال الحرب الأهلية اللبنانية، حافظت ليبيا على حضورها في المشهد اللبناني، وإن اتسم هذا الحضور أحياناً بالحدّية والتدخّل المباشر، إلا أن العلاقات بين الدولتين لم تكن في جوهرها عدائية، بل بقيت خاضعة لتقلّبات السياسة الإقليمية وتوازناتها.
أزمة الإمام موسى الصدر: الجرح المفتوح
شكّل اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه في ليبيا عام 1978 نقطة التحوّل الأخطر في العلاقات بين البلدين. لم تكن القضية حدثاً عابراً، بل تحوّلت إلى جرح وطني وسياسي عميق، لا سيما في الوعي اللبناني العام. وقد ارتبطت هذه القضية مباشرة بشخص معمر القذافي ونظامه، ما أدى عملياً إلى تجميد العلاقات الرسمية بين بيروت وطرابلس لعقود طويلة.
ومع مرور الزمن، تجاوزت القضية بعدها القضائي والإنساني، لتتحول إلى ورقة سياسية داخلية، استُخدمت في كثير من الأحيان لتكريس مواقف متشددة ومنع أي مقاربة مختلفة للعلاقة مع ليبيا، حتى بعد سقوط النظام الليبي السابق وتغيّر المعادلات السياسية في طرابلس الغرب.
ما بعد القذافي: فرصة لم تُستثمر
المفارقة اللافتة أن حكومة طرابلس – الغرب، المنبثقة عن الثورة على نظام القذافي، كانت من أوائل المبادرين إلى فتح قنوات تواصل مع لبنان، في خطوة كان من شأنها أن تؤسس لمسار تصالحي طبيعي، خصوصاً أن تهمة إخفاء الإمام الصدر بقيت لصيقة بالنظام السابق، لا بليبيا ما بعد القذافي.
إلا أن هذه المبادرات اصطدمت بواقع لبناني منقسم، حيث غاب القرار السيادي الموحد، وبقي التعامل مع ليبيا أسير حسابات داخلية ضيقة، ما حال دون ترجمة أي تقارب فعلي يعيد وصل ما انقطع.
أثمان القطيعة على لبنان
إن استمرار القطيعة مع ليبيا لم يكن بلا كلفة. فلبنان، في ظل أزماته الاقتصادية الخانقة، فوّت على نفسه فرص تعاون اقتصادي واستثماري، إضافة إلى إمكانات سياسية كان يمكن أن تعزز حضوره العربي. كما أسهم هذا الجمود في تكريس صورة لبنان كدولة عاجزة عن الفصل بين التمسك بقضية وطنية محقة، وبين إدارة علاقاتها الخارجية بمنطق الدولة ومصالحها العليا.
لا دولة تُدار بالمزاج
تبقى قضية الإمام موسى الصدر قضية وطنية كبرى لا يمكن التفريط بها أو تجاوزها، لكنها في المقابل لا يمكن أن تُستخدم ذريعة دائمة لتعطيل مصالح لبنان أو لرهن سياسته الخارجية بإرادة جهة سياسية واحدة، مهما كان موقعها أو رمزيتها.
فالدول لا تُدار بالمزاج ولا بالاعتبارات الفردية، بل بالمؤسسات وبموازين المصالح الوطنية. ولبنان، إذا أراد استعادة دوره ومكانته، لا بدّ أن يعيد صياغة علاقاته العربية بمنطق الدولة، بما يحفظ قضاياه العادلة، وفي الوقت نفسه يفتح أبواب التعاون مع الدول الشقيقة، وفي مقدّمها ليبيا.
وعليه، فإن استعادة العلاقات اللبنانية–الليبية ليست مسألة وقت فحسب، بل مسألة قرار سيادي جامع، حين يدرك اللبنانيون أن حماية القضايا الوطنية لا تتناقض مع حماية مصالح الدولة، وأنه لا يجوز لأي جهة سياسية، كائناً من كانت، أن تحتكر القرار الوطني أو تتحكم بمصير علاقات لبنان العربية.
