إشكالية التداخلات السياسية وطبيعة النظم الحاكمة:

كتبة الدكتورة مريم عبدالله اسحق

لا يمكن الحفاظ على أية حقوق إنسانية ما لم توجد سيادة القانون، ولكن هذا المصطلح من المنظور العملي وليس الأكاديمي ليس مصطلحاً واضحاً. قبل القول بضرورة سيادة القانون لا بد من معرفة ما هو القانون الذي يجب أن يكون سارياً على الجميع بشكل متساوٍ، وما هي طبيعة الجهة التشريعية التي تضع هذا القانون. هذا الأمر مرتبط بطبيعة النظم السياسية، فالدول الديموقراطية تنتهج في قوانينها نهجاً عادلاً، بينما ليس الأمر كذلك في الدول التي تسيطر عليها نظم شمولية أو ديكتاتورية. على سبيل المثال، لا يمكن القول بوجود سيادة قانون ضمن دولة يسيطر عليها نظام شمولي يسخّر القانون الوطني لحماية مصالحه أو حماية وجوده. وهذا الأمر ينعكس على الحق بالتظاهر بشكل مباشر. هل يمكن مثلاً التقدم بطلب لترخيص مظاهرة ضد نظام الحكم الشمولي؟
هنا يخرج الحق في التظاهر من الإطار القانوني، ويصبح ضمن دائرة خطرة جداً قد تنقله إلى مستويات متقدمة من العنف. على سبيل المثال، شهدت العديد من الدول العربية احتجاجات عارمة ضمن ما سمي بالربيع العربي. بدأت هذه الاحتجاجات في تونس وانتقلت إلى مصر واليمن وليبيا وسوريا. لقد كان الطابع الأساسي لهذه التظاهرات طابعاً سياسياً يهدف إلى إزاحة النظم الحاكمة، ولكن سببت هذه الاحتجاجات في العديد من الدول نتائج كارثية. لقد تحوّل المشهد في ليبيا إلى نزاع مسلح وكذلك الأمر في سوريا، واليوم لا يمكن إحصاء النتائج الكارثية لما حدث في بعض تلك الدول نتيجة الحروب الداخلية.
دائماً مسألة حماية حقوق الإنسان مسألة مرتبطة بطبيعة النظام السياسي الحاكم، وبالتالي لا يمكن تحليل الالتزام بحق التظاهر أو غيره من الحقوق الأخرى ما لم يتم التطرق إلى مجموعة متعددة من المسائل العملية المرتبطة به، وقبل أن نسأل أنفسنا إذا كان تم الالتزام بحماية هذا الحق أو غيره من الحقوق، يجب أن نسأل أنفسنا عن مدى وجود أساس موضوعي له، بمعنى هل يوجد ديموقراطية في هذه الدولة أم لا؟ هل يوجد استقلال قضاء في هذه الدولة أم لا؟.
معايير المساءلة في إطار تجاوز حدود الحق في التظاهر:
ضمن اجتهادات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان المتعلقة بالمظاهرات وأعمال الشغب والاحتجاجات، صدر بتاريخ الرابع من شباط من العام 2014 قراراً بشأن القضية رقم 11882/10 المحالة إلى الدائرة الكبرى بتاريخ 3 حزيران من العام 2014 ( Pentikainen ضد فنلندا). تتلخص هذه القضية بأن الشرطة قد اعتقلت مصور صحفي أثناء تغطية مظاهرة، ولكن الاعتقال جاء على خلفية عصيان أوامر الشرطة بمغادرة مكا التظاهرة، وليس بصفته صحفياً. ولم تقم الشرطة بمصادرة معدات التصوير الخاصة به. في هذه القضية، قررت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن المحاكم الوطنية الفنلندية قد حققت توازناً بين المصالح المعرضة للخطر وأن التدخل الذي قامت به الشرطة كان ضرورياً في مجتمع ديموقراطي. بينما قررت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في قراراها الصادر بتاريخ 18 حزيران من العام 2013 بشأن القضية رقم 8029/07 بخصوص اعتقال الشرطة التركية لمجموعة من الأشخاص الذين نظموا مظاهرة دعماً لزعيم حزب العمال الكردستاني. وقد قررت المحكمة أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية تتعارض مع القواعد القانونية المتعلقة بحماية الحق في التظاهر ولم يكن هنالك توزان بين استعمال العنف وضرورة الحفاظ على الأمن حتى ولو كان حزب العمال الكردستاني منظمة محظورة في تركيا.
ما نريد قوله في هذا الصدد هو أن القضاء المستقل هو الحكم الفاصل في مسألة وضع معايير المساءلة عند تجاوز حدود الحق في التظاهر، واستقلالية القضاء بحد ذاتها هي مسألة مرتبطة بالديموقراطية.
متطلبات حماية الحق في التظاهر:
مسألة وجود قضاء مستقل يراقب معيار التوازن بين الإجراءات الإدارية التي تقوم بها قوى الأمن الداخلي والشرطة والقوات الأمنية تجاه التظاهرات ليست كافية، فالقضاء غير قادر على التدخل بصورة مباشرة لمنع المحتجين أو المتظاهرين من التعدي على الأملاك العامة والخاصة أو التسبب بفوضى وتخريب، وليس قادر بشكل فوري على منع الشرطة والقوى الأمنية من استعمال العنف المفرط تجاه المحتجين. لذلك يرتبط الحق بالتظاهر من وجهة بالمتطلبات التالية:
أولاً: الثقافة الاجتماعية:
الاحتجاجات في العديد من الدول كانت بوابة لنزاعات مسلحة مدمرة، بينما في دول أخرى كانت احتجاجات سلمية لم تؤدي إلى خسائر في الأرواح أو الممتلكات المادية. هذا الأمر نعزوه بشكل أساسي للثقافة الاجتماعية، فالإيمان بضرورة الالتزام بالسلمية وعدم التعدي على الحقوق والحريات العامة والخاصة مسألة مرتبطة بثقافة الجمهور وارتباطه بالقيم الوطنية الثابتة وإيمانه بدولة المؤسسات. التظاهر موجه ضد المنهجيات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية وليس ضد مؤسسات الدولة التي تبقى ثابتة حتى لو تغيرت منهجية الإدارة الخاصة بنظام الحكم.
ثانياً: التدريب الخاص بالقوى الأمنية وضمان استقلالهم الوظيفي:
ليست المسألة متعلقة بالثقافة الاجتماعية وحسب، بل أيضاً بمنهجية التعاطي مع الاحتجاجات من قبل القوى الأمنية. وهذه المسألة مرتبطة بالتدريب الوظيفي الخاص بعناصر القوى الأمنية وإدراكهم التام لضرورة احترام الحق بالتظاهر والتعامل بسلمية مع الاحتجاجات. وما يعزز هذا الأمر هو الاستقلال الوظيفي لهذه الأجهزة، فإذا كانت هذه الأجهزة غير مستقلة وتخضع في عملها لقرارات سياسية أو تدخلات من السلطة التنفيذية فإنها لن تكون قادرة على حماية الحق بالتظاهر أو غيره من الحقوق الأخرى. هنالك العديد من الأمثلة في العديد من الدول تثبت هذه الإشكالية بصورة واضحة، فقوات الجيش أو الأمن الداخلي تتبع للنظم الحاكمة السياسية وليست مستقلة عنها وظيفياً، وتنفذ الأجندات السياسية التي تريدها تلك النظم، وهذا ما يجعل المتظاهرين في صدام مع قوى الجيش أو الأمن، وهذا ما يؤدي لنتائج سلبية على المجتمع والدولة بشكل عام.

Spread the love

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *