معركة الحسم.. أوروبا تستعد لإستئصال الإسلام السياسي؟


يبدو أن سَيل الإرهاب بلغ الزبى في أوروبا، بعد توالي الضربات الإرهابية على أراضيها بإسم الإسلام السياسي. معركة بادرت باريس لقيادتها، في وقت وصلت فيه القارة العجوز لمفترق طرق حاسم ومصيري كما يرى عدد من الخبراء الألمان.

تزامنا مع محاكمة المتورطين في الهجوم على صحيفة “شارلي إيبدو” الساخرة عام 2015، وهجمات نيس وفيينا، فرض موضوع تجذّر المجموعات الإسلاموية الإرهابية في أوروبا نفسه من جديد على جدول أعمال عواصم التكتل القاري. وهكذا وضعت أجهزة الشرطة والاستخبارات نفسها في حال تأهب نظراً لما يتمتع به تنظيما “الدولة الإسلامية” و”القاعدة” من قدرات على إعادة تنظيم نفسيهما. فقد دفعت أوروبا ثمنا باهضا بعد سلسلة من الاعتداءات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة.

الإسلام السياسي.. الجذور الأيديولوجية للإرهاب الجهادي

“الإسلام السياسي” هو مصطلح للتعبير عن جميع التيارات الأيديولوجية والسياسية التي تهدف إلى إقامة دولة (خلافة) تقوم على مبادئ الإسلام، سواء على مستوى الدولة أو على مستوى المجتمع.

اليوم، أصبح “الإسلام السياسي” يستعمل في الغالب كرديف للإسلاموية وبالتالي الراديكالية الدينية، وحتى العنف الإرهابي. والمفارقة هي أن الإسلام السياسي هو مفهوم نشأ في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين لتوصيف ظاهرة عودة الدين إلى المجال السياسي، كرد فعل على الأنظمة الاستبدادية العلمانية بالدعوة إلى العودة للشريعة وإقامة دولة إسلامية.

الجذور الأيديولوجية للإسلام السياسي تعود للسياق الاستعماري. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين عاد مفكرون إصلاحيون مثل جمال الدين الأفغاني (1838- 1897) ومحمد عبده (1849- 1905) إلى النصوص الدينية المـُؤَسِسة لمواجهة تفوق الغرب العلمي والتكنولوجي، وذلك من خلال محاولة إعادة تفسير التراث الإسلامي. وسعى هؤلاء المفكرون إلى إحياء المجتمع الإسلامي وتعبئته.

غير أن هذا الزخم الإصلاحي الأولي تمت إعادة توجيهه نحو مشروع إسلامي شامل مناهض للغرب من أبرز وجوهه رشيد رضا (1865- 1935)، الذي دعا إلى عودة دولة الخلافة، ولم يعد الأمر يتعلق بـ”تحديث الإسلام” وإنما بـ”أسلمة الحداثة”. نهج اختارته جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في مصر عام 1928 على يد حسن البنا (1906- 1949) ويعتبرها المؤرخون مُلهمة الجماعات الإسلامية التي ستظهر في المنطقة خلال القرن العشرين.

اعتداءات نيس وفيينا.. أوروبا وتحدي الإسلام السياسي

هجمات فيينا أكدت ضرورة تعزيز سياسة أوروبية مشتركة لمواجهة الإرهاب، فقد طالب المستشار النمساوي زباستيان كورتس التكتل القاري ببذل مزيد من الجهود لمواجهة الإسلام السياسي. وفي تصريحات لصحيفة “فيلت” الألمانية، قال كورتس “أتوقع نهاية التسامح المفهوم خطأ”، وطالب الاتحاد الأوروبي بزيادة التركيز على هذه المشكلة مستقبلا، معربا عن اعتقاده بأن الأيديولوجية السياسية للإسلام تهدد الحرية ونموذج الحياة الأوروبي.

وأضاف كورتس أن بلاده لديها قوانين صارمة “لكن هذا الهجوم في قلب عاصمتنا يوضح أن علينا أن نكون يقظين وحازمين”.

وتابع كورتس أنه على اتصال مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزعماء آخرين للتنسيق من أجل خطوات مشتركة داخل الاتحاد الاوروبي، ولفت إلى أنه سيطرح هذا الأمر للنقاش في القمة الأوروبية المقبلة.

يشار إلى أن تنظيم داعش أعلن مسؤوليته عن هجوم شهدته فيينا (مساء الاثنين الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) وأسفر عن مقتل أربعة أشخاص، من بينهم المنفذ، وإصابة 22 شخصا.

موقع “ديغيتال ديلي” الألماني كتب يوم الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020: “في عام 1782 أُحرقت آخر “ساحرة” في أوروبا، وفي الكثير من كتب التاريخ يُنظر إلى ذلك الحدث كنهاية للعصور الوسطى، حيث أصبح قتل المدنيين الأبرياء بدوافع دينية جزء من الماضي (..) اليوم يتم القتل بسبب رسوم كاريكاتورية في مدرسة، من منظور العصور الوسطى الإسلامية”.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دعا الدول الأوروبية إلى “محاربة الإرهاب بشكل مشترك”، معتبراً أن الهجوم على النمسا عقب الاعتداءات في فرنسا، يُظهر أنه لا يوجد بلد بمنأى عن الخطر. وأكد ماكرون أثناء زيارته سفارة النمسا في باريس “تضامن فرنسا المطلق”، مضيفا أنّ الاعتداء يُظهر نيّة “أعدائنا مهاجمة ما تمثّله أوروبا من أرض حرّيات وثقافة وقيَم. لذا لن نخضع”. ويتشابه هذا التصريح مع ما قالته المستشارة الألمانيّة أنغيلا ميركل عن “المعركة المشتركة” في مواجهة “الهجوم على قيمنا الأوروبّية”.

الإسلام والحداثة.. خورشيد يدعو لإصلاح عاجل وشامل

البروفيسور مهند خورشيد، عالم اجتماع وعالم دين مسلم نمساوي، لبناني من أصل فلسطيني، يعمل أستاذاً في جامعة مونستر في ألمانيا، كما يشرف على مركز توثيق الإسلام السياسي، الذي أسسته النمسا مؤخرا بهدف خلق وعي بالبنى التي يتفشى فيها الإسلام السياسي داخل المجتمع. خورشيد أوضح في مقال نشره موقع شبكة “NDR” الألمانية (30 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) حاجة الإسلام إلى إصلاح عاجل وشامل وكتب أن “هجوم نيس الوحشي تسبب في رعب في جميع أنحاء العالم”. وحذر خورشيد من أن “الإسلاميين يريدون الإطاحة بالمجتمعات الليبرالية في جميع أنحاء العالم”.

ودعا خورشيد المسلمين لفهم سور القرآن وأحكامه في سياقها التاريخي. واعتبر أن هناك سوراً قرآنية بشأن استعمال العنف تتعلق بمواقف حرب في القرن السابع في شبه الجزيرة العربية، لكنها لا تشكل بأي حال من الأحوال أوامر لمسلمي اليوم، فهي لا تبرر العنف والإرهاب.

يقول خورشيد: “بعد وقت قصير من وفاة النبي محمد، أصبح الإسلام أداة سلطة في أيدي أولئك الذين يقاتلون من أجل الخلافة. نُسبت الكفاءات الإلهية إلى الحاكم واستمدت المطالبة الشاملة بالقيادة شرعيتها من ذلك، مما أدى إلى انحطاط واختزال الناس إلى مجرد توابع مُطيعة. فتم الابتعاد عن دين المحبة والرحمة. لذا فإن الإصلاح ضروري اليوم لتحرير الإسلام الذي بات رهينة السياسة (..) لا يمكن للإسلام أن يطور قدرته على التحرر إلا من خلال الإصلاحات المستمرة”.

تكوين الأئمة بألمانيا.. خطوة نحو مواجهة التطرف

اعتبارًا من العام المقبل، ستكون هناك دورة تدريبية جديدة لتكوين الأئمة في ألمانيا، كما أعلن عن ذلك “إسلام كوليج دويتشلاند” (IKD) (الثلاثاء الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) في برلين. وفي السنة الأولى سيتم تكوين حوالي 30 مشاركًا انطلاقا من أبريل/ نيسان 2021. التكوين سيتم باللغة الألمانية فقط. المشروع تموله وزارة الداخلية الألمانية ووزارة العلوم في ولاية ساكسونيا السفلى. ويضم الأعضاء المؤسسون لكلية الإسلام علماء دين في شؤون الإسلام وشخصيات عامة وهيئات إسلامية مثل المجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا”.

يذكر أن علماء الدين الإسلامي يتم تكوينهم بالفعل في الجامعات الألمانية. غير أنه كان هناك غياب لحد الآن لتكوين يشمل العمل الفعلي داخل المساجد والجاليات المسلمة، وهذا هو سبب قيام أئمة من الخارج بإلقاء الخطب في العديد من مساجد البلاد. وكان “مؤتمر الإسلام الألماني” قد سطر لنفسه هدفًا يتمثل في دمج أكبر عدد من المسلمين الألمان كأئمة في المساجد.

دعوات ألمانية للتصدي للإسلام السياسي

دعت شخصيات ألمانية من المجتمع المدني وسياسيون في التحالف المسيحي، المنتمية إليه المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، إلى اتخاذ إجراءات أكثر حزما ضد الإسلام السياسي في ألمانيا بعد الهجوم الإسلاموي في مدينة نيس الفرنسية. وكتب الموقعون على بيان نشرته صحيفة “فيلت” الألمانية في عددها يوم السبت (30 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) أن الإسلام السياسي يتجذر بشكل متزايد في جاليات إسلامية أوروبية. وجاء في البيان أنه على الرغم من عدم وجود “أحوال فرنسية” في ألمانيا حتى الآن، ظهرت مشاكل مماثلة هنا أيضا.

وأضاف البيان: “هناك مجتمعات مسلمة تعيش منفصلة في مدننا أيضا، حيث يتبنى الشباب بحماس التطرف الإسلامي. التحريض والاعتداءات المعادية للسامية لا تأتي فقط من المتطرفين اليمينيين، ولكن أيضا من دوائر إسلاموية”.

ومن بين الموقعين على البيان الكاتبة والمحامية سيران أتيش، والناشرة نيكلا كيليك والطبيب النفسي أحمد منصور. ووقع أيضا على البيان نائب رئيس الكتلة البرلمانية للتحالف المسيحي كارستن لينيمان، ونائب رئيس الكتلة البرلمانية للحزب المسيحي الاجتماعي البافاري في البرلمان المحلي بولاية بافاريا فينفريد باوسباك، والنائب في البرلمان الاتحادي عن الحزب المسيحي الديمقراطي كريستوف دي فريس.

وأكد الموقعون على البيان ضرورة تحديد مشاكل مجتمع المهاجرين الوافدين ومعالجتها. وجاء في البيان: “لقد حان الوقت لمواجهة مشاكل مجتمع المهاجرين بشكل علني وعدم الخوف من مزاعم لا أساس لها من معاداة الإسلام أو العنصرية ضد المسلمين”. وعلى وجه التحديد، طالب الموقعون بإجراء دراسات حول الإسلام السياسي، لا سيما في المدارس، إلى جانب تأسيس مركز توثيق ووقف تعاون الدولة والمؤسسات السياسية مع منظمات الإسلام السياسي وتشكيل مجموعة خبراء مختصة بهذا الشأن في وزارة الداخلية الألمانية.

مسلمو ألمانيا يدينون الإرهاب بإسم الدين

بهذا الشأن كتب موقع “نوردبايرن” (31 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) “يجب على مسلمي أوروبا أن يتحرروا بأنفسهم من أولئك الذين، بإسم دينهم، يتحولون إلى قتلة ومجرمين، حيث يؤجج متطرفون مشاعر الحقد والكراهية، يأخذون كلمات في القرآن، دون تفكير، لتبرير أفعالهم”.

وأدان المجلس الأعلى (المركزي) للمسلمين في ألمانيا بشدة هجوم الطعن القاتل في مدينة نيس جنوبي فرنسا. وقال أيمن مزيك، رئيس المجلس، في بيان: “من يجلب القتل والإرهاب للناس، فإنه يرتكب جرما في حق الإنسانية ويرتكب جرما في حق الله”.

وأضاف مزيك: “نحن كمسلمين علينا أن نتصدى بصورة أكثر حزما للإرهاب والتطرف على صعيد المجتمع كله”.

ومن جانبه، أعرب الاتحاد الإسلامي التركي (ديتيب) عن “بالغ مواساته” لأقارب الضحايا، وقال إنه يدين الإرهابيين “من كل لون، ونحن لا نفرق بينهم لأنهم ينتمون إلى نفس المصدر: الكراهية”، وحذر من أن الإرهاب يخلف إرهابا “وعلينا كمجتمع أن نتصدى له بحزم”.

وبهذا الصدد كتب موقع “تسيتسيرو” الألماني يوم (11 أكتوبر/ تشرين الأول 2020): “لقد مرت عشر سنوات، حتى الآن، على مقولة الرئيس الألماني السابق كريستيان فولف التي أكد فيها أن “الإسلام جزء من ألمانيا”. جملة أثارت ولا تزال تثير جدلا لا ينتهي.

وتساءل الموقع عن ارتدادات هذه الجملة اليوم على ضوء الأحداث التي هزت المجتمع الألماني منذ ذلك الحين. فقد طالب وزير الصحة الألماني، ينس شبان، بالتكاتف من أجل مكافحة الإسلاموية.

وفي إشارة إلى أزمة كورونا الراهنة، قال العضو البارز في حزب المستشارة ميركل إن “أوروبا تشهد موجة إرهاب في خضم الجائحة”. وأعرب شبان عن صدمته إزاء الهجوم الإرهابي الذي وقع في العاصمة النمساوية فيينا مساء الاثنين، وعن مواساته للضحايا.

وعن الإرهاب والجائحة، قال الوزير الألماني: “يجب أن نتضامن في مواجهة الأمرين، وأن نعمل معا على مكافحتهما”. وقال شبان إن من الضروري وضع استراتيجية لمكافحة الإسلاموية” ويجب أن نخوض هذه الحرب بالتعاون مع المسلمين الليبراليين”.

حسن شلغومي.. إمام ليبرالي يعانق القيم الأوروبية

أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه الشهير حول “الانعزالية الإسلامية” أن “هدف فرنسا هو تكوين وتأهيل جيل من الأئمة والمثقفين الذين يدافعون عن إسلام يتوافق مع قيم الجمهورية”.

ومن المعلوم أن هناك مجموعة من الأئمة الليبراليين ظهروا في دول أوروبية عديدة، بما فيها فرنسا، في محاولة للتوفيق بين القيم الأوروبية ومبادئ الدين الإسلامي. وبهذا الصدد كتبت صحيفة “تاغسشبيغل” البرلينية (الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) مقالا تعريفيا بالإمام حسن شلغومي، إمام مسجد مدينة درانسي الفرنسية.

ويعتبر شلغومي من الشخصيات الإسلامية المعروفة في فرنسا، ولد في تونس عام 1972، ذو توجه إصلاحي ويرى فيه الكثيرون “الإمام النموذجي”. فهو يعارض الحجاب الكامل كالبرقع ويدافع عن المساواة بين الجنسين، كما يعتبر من المتحمسين للحوار بين الإسلام والمسيحية واليهودية. وشارك في حفل تأبين لضحايا الهولوكوست في مدينة درانسي. غير أن مواقفه هذه لم تجلب له الإعجاب فحسب، وإنما أيضا انتقادات وأحيانا حملات كراهية.

وساهم شلغومي في عام 2010، في حملة حظر شامل للبرقع في الأماكن العامة، واصفا إياه بـ”سجن النساء”. وتلقى تهديدات بالقتل ووضع تحت حماية الشرطة بسبب آرائه في الإسلام الحديث المستنير.

شلغومي أدان بشدة الهجوم على مجلة “شارلي إيبدو” الساخرة في يناير/ كانون الثاني 2015. وقال لقد باع الجناة “أرواحهم للجحيم”. لقد تصرفوا فقط بدافع الكراهية. قبل عشر سنوات كان قد أكد بالفعل أن العدو الحقيقي للإسلام هو “التطرف”.

وأوضحت “تاغسشبيغل” أن شلغومي “غادر تونس عام 1992 وتوجه إلى سوريا وباكستان ثم تركيا، حيث درس أيضًا في مؤسسات بعضها معروف بالتوجه الأصولي. هناك تكهنات بأنه كان أكثر تطرفا في ذلك الوقت. لكنه نفى ذلك بالقول: “لم أكن أصولياً أبدا”. ويصف نفسه بأنه مسلم “معتدل” و”جمهوري”. بعد مقتل مدرس التاريخ صامويل باتي، اعتبر شلغومي، مع حوالي عشرة أئمة آخرين، “الإسلاموية مرضا من أمراض الإسلام يجب محاربته”.


حسن زنيند
DW

Spread the love

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *