إعادة ضبط السلطة والسيادة: تقييم أولويات الحكومة اللبنانية وأفق نجاحها في الملفات الحساسة.

إعادة ضبط السلطة والسيادة: تقييم أولويات الحكومة اللبنانية وأفق نجاحها في الملفات الحساسة.

الدكتورة: مريم اسحق بوكريم.

تواجه الحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة نواف سلام مرحلة حرجة في تاريخ الدولة اللبنانية، حيث تتلاقى مجموعة من الأزمات البنيوية مع الضغوط الداخلية والخارجية ضمن مشهد سياسي وأمني معقد. يتطلب هذا المشهد مقاربة سياسية واستراتيجية دقيقة يمكن من خلالها تحديد الأولويات الرئيسية بما يتوافق مع هدف ضبط السلطة والحفاظ على السيادة. فعملياً، تواجه الحكومة الحالية مجموعة من التعقيدات أبرزها الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ العام 2019، والتي أدت إلى انهيار في قيمة العملة الوطنية، وتضخم اقتصادي مفرط؛ وهو ما سبب انهياراً للثقة بين اللبنانيين والدولة.
النظام الإدراي والاقتصادي الهش حالياً يضع الحكومة أمام تحدٍ استثنائي لإصلاح الاقتصاد بطريقة متكاملة وشاملة، وهو ما يتطلب تطبيق مبادئ الشفافية والمساءلة، مع تجنّب إثارة النزاعات بين القوى السياسية المختلفة داخل مجلس النواب والحكومة، خاصة وأن الانقسام السياسي بين تلك القوى هو أحد عنواين عرقلة العمل الحكومي في العديد من الملفات، وأبرزها الملف الاقتصادي الذي ينتظر إجراءات جدية من الحكومة من شأنها أن تفتح باب المساعدات الدولية للبنان.
الحرب الأخيرة بين اسرائيل وحزب الله وضعت الحكومة أمام تحدٍ جديد فيما يتعلق بمحاولات إرساء المشاريع الإصلاحية وإعادة ضبط السلطة. فقد تسببت العمليات القتالية في الجنوب بأزمة جديدة تتعلق باستعادة سيادة الدولة اللبنانية على الأراضي المحتلة في الجنوب اللبناني، وهو ما تربطه الحكومة الحالية بالمسارات الدبلوماسية الدولية للضغط على اسرائيل التي تستمر في سياستها العسكرية والأمنية تجاه حزب الله. يبدو أن هذا الملف هو من أكبر الملفات حساسية وأكثرها تعقيداً في الوقت الراهن، حيث تتجه الحكومة لحصر السلاح داخل نطاق الشرعية، في وقت يتمسك به حزب الله بالسلاح؛ الأمر الذي قد يعيد فتح المواجهة العسكرية مجدداً بينه وبين اسرائيل، وهو ما سيؤدي لفشل الجهود الحكومية اللبنانية في هذا السياق.
في هذا الشأن، بات لبنان أمام ضغوط متعددة الأبعاد، تتقاطع فيها جملة من الاعتبارات الداخلية مع الضغوط الإقليمية والدولية، حيث يبقى تمسك حزب الله بالسلاح خارج إطار الدولة أحد أبرز التحديات التي تعيق قدرة الحكومة على فرض السيادة والقانون على كامل الأراضي اللبنانية. تمسّك حزب الله بسلاحه ليس مجرد أزمة أمنية، فهو مرتبط باعتبارات النفوذ السياسي والطائفي العميق الذي ارتبط بهيمنة إيرانية سابقاً، وبالتالي، فإن محاولات ضبط السلطة وإخضاع السلاح للجيش هي عملية بالغة التعقيد، وتتطلب قدرة سياسية فائقة وتوزان دقيق بين القبول الداخلي للواقع والاستجابة بمرونة للضغوط الخارجية الأمريكية والأوروبية التي تربط المساعدات الاقتصادية والتمويل الدولي بتنفيذ خطة حصر السلاح، وإجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية.
في ضوء ما سبق، بات من الواضح أن الحكومة اللبنانية تعمل في بيئة ذات حساسية قصوى، فكل قرار مرتبط بإعادة فرض سيادة الدولة على السلاح، ومواجهة التهديدات الإسرائيلية، وتنفيذ الشروط الدولية، يتطلب إدراكاً عميقاً لتشابك الأبعاد الأمنية والسياسية والاقتصادية، ويفرض على الحكومة ضرورة تفعيل آليات حكم رشيد، قدرة على الحوار الداخلي، وإستراتيجيات متقدمة لإدارة الضغوط الإقليمية والدولية دون المساس بالاستقرار الوطني أو تفاقم الانقسامات الطائفية.
في السياق ذاته، تشكل حالة الانفلات الأمني بعد سقوط نظام الأسد في سوريا تهديداً مباشراً للأمن اللبناني، حيث يعتبر الوضع الأمني على الحدود اللبنانية السورية هشاً إلى درجة كبيرة، وعلى الرغم من أن الحكومة اللبنانية اتخذت العديد من الإجراءات لإغلاق المعابر غير الشرعية، لكن الأوضاع الأمنية لا تزال خارج السيطرة الأمنية بشكل كامل. وهو ما يشكل خطراً ينذر بتسرب الفوضى إلى الأراضي اللبنانية، خاصة مع انتشار الجماعات الجهادية والمجموعات المسلحة غير المنضبطة في سوريا بشكل كبير. فبعد سقوط نظام الأسد، تفككت الدولة المركزية في سوريا، ودخلت البلاد في حالة فوضى جديدة قائمة على العنف الطائفي، وهو ما يمكن أن يتأثر لبنان بتداعياته إلى حد كبير.
يفرض هذا الأمر على الحكومة الجديدة مسؤولية مزدوجة تتمثل في ضبط الحدود ومواجهة أي محاولة لتسريب الفوضى عبر الأراضي اللبنانية، وفي الوقت ذاته يتوجب عليها إدارة التدخلات الإقليمية والدولية التي قد تسعى لاستثمار ضعف الدولة اللبنانية في إعادة رسم التوازنات السياسية والأمنية لصالح قوى خارجية، وهو ما يستلزم قدرة فائقة على التنسيق بين السياسات الداخلية والخارجية بطريقة استراتيجية دقيقة لا تسمح لأي طرف بالهيمنة على القرار الوطني.
إن المرحلة الحالية تمثل اختباراً حقيقياً لقدرة الدولة اللبنانية على المحافظة على استقلالها، وعلى إدارة أزماتها المتشابكة، إذ إن أي إخفاق في معالجة هذه الملفات المترابطة سيؤدي إلى تفاقم الفوضى الداخلية وتعميق هشاشة الدولة، بما يجعل كل قرار سياسي أو اقتصادي أو أمني ذا تأثير مصيري على مستقبل لبنان واستقراره الإقليمي، ويبرز مدى الترابط الحتمي بين إعادة ضبط السلطة والسيادة، وبين القدرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية المتعددة الأبعاد في وقت يسعى فيه الجميع، من الداخل والخارج، إلى التأثير على مسار الدولة اللبنانية وتحديد أفق قدرتها على الصمود والتعافي.
من وجهة نظر موضوعية، سيكون من المهم إلى درجة كبيرة أن تعمل الحكومة اللبنانية على إعادة هيكلة شاملة بالتعاون مع القوى السياسية والمجتمع المدني والمكونات الطائفية. حيث تقوم عملية إعادة الهيكلة هذه على إعادة تأسيس العقد السياسي الوطني اللبناني عبر صياغة ميثاق وطني جديد، يهدف إلى هيكلة النظام السياسي اللبناني وتحديد صلاحية السلطات، مع وضع آليات جديدة لمعايير السيادة الوطنية. ومن المهم إلى درجة كبيرة جداً أن يتم إشراك الأطراف الدولية في مثل هذه العملية السياسية لضمان الدعم وإنهاء أية ذرائع للتدخل الخارجي بشكل سلبي.

Spread the love

MSK