هذه ليست إسرائيل التي أعرفها.. (1)

بقلم توماس فريدمان

«نيويورك تايمز»

حذّرني كثيرون قبل مجيئي إلى تل أبيب قبل بضعة أيام من أنّ إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) ليست إسرائيل التي زرتها من قبل. وكانوا على حقّ. فقد رأيتُ مكاناً لم يعِش فيه الإسرائيليون من قبل، وأمّةً لم يضطرّ جنرالات إسرائيل إلى حمايتها من قبل، ورأيتُ حليفاً لم تضطرّ أميركا إلى الدفاع عنه من قبل، وبالتأكيد ليس بالسرعة والعزيمة اللتين قد تدفعان رئيساً أميركياً ليطير فوراً إلى هناك، وأن يعبّئ معه الأمّة كلّها معه.

بعد التجوال حول إسرائيل والضفة الغربية، أدركت الآن لماذا تغيّر الكثير. من الواضح تماماً بالنسبة لي أنّ إسرائيل تواجه خطراً حقيقياً، وهو خطر أكبر من أيّ وقت مضى، منذ حرب الاستقلال عام 1948. وذلك لثلاثة أسباب رئيسية:

أوّلاً، تواجه إسرائيل تهديدات من مجموعة أعداء يجمعون بين وجهات نظر ثيوقراطية آتية من العصور الوسطى، وبين أسلحة القرن الحادي والعشرين. وما عادوا منظّمين كمجموعات صغيرة من رجال الميليشيات، بل أصبحوا أقرب إلى جيوش حديثة تضمّ ألوية وكتائب وقدرات إلكترونية وصواريخ بعيدة المدى وطائرات بدون طيّار ودعم فنّي. أتحدّث هنا عن حماس المدعومة من إيران، والحزب في لبنان، والميليشيات الإسلامية في العراق، والحوثيين في اليمن، والآن حتّى فلاديمير بوتين الذي يحتضن حماس علناً. لقد كان هؤلاء الأعداء موجودين منذ فترة طويلة، لكن يبدو أنّهم ظهروا معاً مثل التنانين خلال هذا الصراع، وهو ما يهدّد إسرائيل بحرب شاملة في وقت واحد.

كيف يمكن للديمقراطية الحديثة أن تعيش مع مثل هذا التهديد؟

هذا هو بالضبط السؤال الذي أرادت هذه «القوى الشيطانية» زرعه في ذهن كلّ إسرائيلي. إنّهم لا يسعون إلى تسوية إقليمية مع الدولة اليهودية. هدفهم هو انهيار ثقة الإسرائيليين بأنّ أجهزتهم الدفاعية والاستخباراتية قادرة على حمايتهم من الهجمات المفاجئة عبر حدودهم. لذلك سيبتعد الإسرائيليون أوّلاً عن المناطق الحدودية ثمّ سيخرجون من البلاد تماماً.

أنا مندهش من عدد الإسرائيليين الذين يشعرون الآن بهذا الخطر على المستوى الشخصي، بغضّ النظر عن المكان الذي يعيشون فيه، بدءاً بصديقة تعيش في القدس أخبرتني أنّها وزوجها حصلا للتوّ على تراخيص سلاح لحيازة مسدّسات في المنزل. لن يختطف أحد أطفالهم ويأخذهم إلى النفق. لكن من المؤسف أنّ حماس قد زرعت الخوف في العديد من الرؤوس الإسرائيلية بعيداً عن حدود غزّة.

ثانياً: حلّ الدولتين

الخطر الثاني هو أنّ الطريقة الوحيدة التي يمكن تصوّرها لكي تتمكّن إسرائيل من توليد الشرعية والموارد والوقت والحلفاء لخوض مثل هذه الحرب الصعبة مع هذا العدد الكبير من الأعداء هي أن يكون لديها شركاء لا يتزعزعون في الخارج، بقيادة الولايات المتحدة. لقد حاول الرئيس بايدن، بشكل بطوليّ، مساعدة إسرائيل في تحقيق هدفها الفوري والمشروع المتمثّل في تفكيك نظام حماس الإرهابي في غزّة والذي يشكّل تهديداً لمستقبل إسرائيل بقدر ما يشكل تهديداً للفلسطينيين الذين يتوقون إلى دولة كريمة لوطنهم في غزّة أو الضفة الغربية.

لكنّ حرب إسرائيل ضدّ حماس في غزّة تستلزم قتالاً في مناطق سكنية، من منزل إلى منزل، وهو ما يؤدّي إلى سقوط آلاف الضحايا المدنيين من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء.

لكنّ الرئيس بايدن لا يمكنه تقديم الدعم الذي تحتاجه إسرائيل بشكل مستدام إلا إذا كانت هي مستعدّة للانخراط في مبادرات دبلوماسية في زمن الحرب، تتوجّه إلى الفلسطينيين في الضفة الغربية، وربما في غزّة «ما بعد حماس»، تعلن فيها إسرائيل أنّها ستناقش «نوعاً ما» حلّ الدولتين، إذا تمكّن المسؤولون الفلسطينيون من توحيد بيتهم السياسي وتنظيمه.

ثالثاً: رحيل نتانياهو

هذا يؤدّي مباشرة إلى قلقي الثالث العميق:

لدى إسرائيل أسوأ زعيم في تاريخها، وربّما في التاريخ اليهودي كلّه، وليس لديه الإرادة أو القدرة على إنتاج مثل هذه المبادرة.

الأسوأ من ذلك أنّني مندهش من الدرجة التي يواصل بها ذلك الزعيم، رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، وضع مصالحه في التمسّك بدعم قاعدته اليمينية المتطرّفة، وإلقاء اللوم بشكل استباقي على أجهزة الأمن والمخابرات الإسرائيلية في الحرب، قبل أن يلتفت إلى الحفاظ على التضامن الوطني أو القيام ببعض الأشياء الأساسية التي يحتاج إليها الرئيس بايدن من أجل تزويد إسرائيل بالموارد والحلفاء والوقت والشرعية التي تحتاج إليها لهزيمة حماس.

لا يمكن لبايدن أن يساعد إسرائيل في بناء تحالف من الشركاء الأميركيين والأوروبيين والعرب المعتدلين لهزيمة حماس إذا ظلّت رسالة نتانياهو إلى العالم: «ساعدونا على هزيمة حماس في غزّة، بينما نعمل على توسيع المستوطنات وضمّ الضفة الغربية وبناء دولة ذات سيادة يهودية هناك».

دعونا نتعمّق في هذه المخاطر

في ليلة السبت الماضي، توقّف قائد متقاعد من الجيش الإسرائيلي عند الفندق الذي أقيم فيه في تل أبيب ليشاركني وجهة نظره حول الحرب. أخذته إلى صالة في الطابق الثامن عشر لإجراء محادثتنا، وعندما وصلنا إلى المصعد، انضممنا إلى عائلة مكوّنة من أربعة أفراد: والدين وطفل صغير ورضيع في عربة الأطفال. سألهم الجنرال الإسرائيلي من أين أتوا. أجاب الأب: «كريات شمونة».

أثناء خروجنا، مازحت الجنرال قائلاً إنّه يمكنني الاستغناء عن إحاطته الإعلامية. لم يستغرق الأمر سوى 18 طابقاً وهاتين الكلمتين، «كريات شمونة»، لوصف المعضلة الاستراتيجية الجديدة المعقّدة التي تواجهها إسرائيل والتي خلقها هجوم حماس المفاجئ في 7 أكتوبر.

كريات شمونة هي إحدى أهمّ المدن الإسرائيلية على الحدود مع لبنان. وقال ذلك الأب إنّ عائلته فرّت من خطّ السياج الشمالي مع آلاف العائلات الإسرائيلية الأخرى بعدما بدأت ميليشيا الحزب الموالية لإيران والميليشيات الفلسطينية في جنوب لبنان بإطلاق الصواريخ والمدفعية والقيام بعمليات توغّل تضامناً مع حماس.

متى يعود الإسرائيليون إلى بيوتهم؟

لم يكن لديهم أيّ فكرة. ومثل أكثر من 200 ألف إسرائيلي آخر، لجأوا إلى الأصدقاء أو إلى الفنادق في جميع أنحاء هذا البلد الصغير الذي يبلغ عدد سكّانه تسعة ملايين نسمة. ولم يستغرق الأمر سوى بضعة أسابيع حتى بدأ الإسرائيليون برفع أسعار العقارات في البلدات الإسرائيلية المركزية الأكثر أماناً على ما يبدو. بالنسبة للحزب، هذه هي المهمّة الوحيدة التي تمّ إنجازها، حتى من دون غزو مثل حماس. وهم، جنباً إلى جنب مع حماس، ينجحون في تقليص حجم إسرائيل.

توجّهت يوم الأحد بسيارتي إلى فندق على البحر الميّت للقاء بعض من مئات الأعضاء الباقين على قيد الحياة في كيبوتس بئيري، الذي كان يسكنه حوالي 1,200 نسمة، من بينهم 360 طفلاً. وهو واحد من التجمّعات الأكثر تضرّراً من هجوم حماس، حيث تعرّض لأكثر من 130 جريمة قتل، بالإضافة إلى عشرات الجرحى وعمليات اختطاف متعدّدة للأطفال وكبار السنّ. قامت الحكومة الإسرائيلية بنقل معظم الناجين من الكيبوتس عبر البلاد إلى البحر الميت، حيث بدأوا الآن بإنشاء مدارسهم الخاصة في قاعة الفندق.

قابلتُ ليات أدماتي، 35 عاماً، وهي إحدى الناجيات من هجوم حماس. كانت تدير عيادة لمستحضرات تجميل الوجه لمدّة 11 عاماً في بئيري. سألتها: ما الذي سيجعل من الممكن لها العودة إلى منزلها على حدود غزّة، حيث نشأت؟

فأجابت: «الأساس بالنسبة لي كي أعود هو أن أشعر بالأمان. قبل ما حدث كنتُ أثق بالجيش. الآن انكسرت هذه الثقة. لا أريد أن أشعر أنّنا نغطّي أنفسنا بالجدران والملاجئ طوال الوقت، بينما يوجد خلف هذا السياج أشخاص يمكنهم الدخول إلينا مرّة أخرى في يوم من الأيام. لا أعرف حقّاً في هذه المرحلة ما هو الحلّ».

يتبع غداً

Spread the love

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *